ونأتى لنقطتين هامتين تعرض لهما هيكل فى الكتاب حول علاقة
الملك فاروق بالانجليز .. وعلاقة نظام يوليو بالإخوان
أما عن علاقة
الملك فاروق بالإنجليز فلم يحدث أن أشار هيكل إلى أن الملك فاروق كان متواطئا مع
الانجليز فى شتى فترات حكمه التى امتدت من الثلاثينيات حتى قيام حركة يوليو عام
1953 م ..
لأن هيكل عالج تلك العلاقة عبر كتابات عدة له ولم يتعرض لها إلا
بالقليل فى كتاب خريف الغضب وفى كل مراحل تعرضه لتلك العلاقة أثبت وأشار وفقا
للوثائق والشواهد التى حضر بعضها أن العلاقة بين فاروق الأول وبين الانجليز كانت
دائما على وجه التوتر الدائم ..
ففي الجزء الأول من كتابه الملحمى " المفاوضات السرية ببين العرب وإسرائيل " والذى تحدث فيه عن
بدايات تكوين الدولة اليهودية أفرد هيكل فصلا كاملا عن حياة الملك فاروق وكيف أنه
بدأ حياته وحكمه كشاب متفتح واع بتاريخ بلاده متمتعا بشعبية ساحقة بين مختلف فئات
الشعب معاديا للتوجه الاستعماري البغيض الذى تنتهجه قوات الاحتلال وهذه الفترة التى
امتدت حتى منتصف الأربعينيات تقريبا هى فترة غفل عن ذكرها الكثيرون نتيجة للتعمية
التى لجأ إليها نظام يوليو لإسدال الستائر على أى وجه ايجابي يخص حكم أسرة محمد على عامة وحكم فاروق الأول خاصة ..
وتلك الفترة
الأولى من بدايات حكم الملك فاروق كانت رهنا لشد وجذب دائم ومستمر بين الملك فاروق
وبين اللورد كيلرن المعتمد البريطانى فى تلك الفترة
والتى شهدت تفجر الحرب العالمية الثانية ليحاول الملك فاروق مد جسور التعاون بينه
وبين قوات المحور التى كانت على وشك إجلاء الانجليز من منطقة الحدود المصرية
الليبية وكانت تلك الرغبة هى دافع الكثيرين من الوطنيين المصريين للحرية من
الاحتلال الإنجليزي ظانين فى الألمان خيرا وهو الأمر الذى كان منافيا للواقع لعدم
وجود فارق بين الاحتلال مهما تعددت وجوهه ..
وعندما استشعر اللورد كيلرن بالخطر
من أسلوب الملك فاروق وغليان الشارع المصري كان مهما له للغاية أن يهدئ ويملك زمام
البلاد بحكومة ذات شعبية ساحقة تتمكن من إقناع الناس بما هو كائن ووقع اختيار
المعتمد البريطانى الطبيعى على حكومة الوفد صاحب الأغلبية وزعيمه مصطفي النحاس الذى
كانت مفاوضاته مع الانجليز مستمرة منذ عام 1936 م وكان فى تلك الفترة خارج الوزارة
وفى صفوف المعارضة ..
وطلب اللورد كيلرن من الملك فاروق تولية النحاس للوزارة
فرفض الملك فاروق نظرا للخصومة والغيرة التى تجمعه مع النحاس فشدد كيلرن بالأمر
فماطله فاروق بعد تردد وعندما استشعر كيلرن بهذا أرسل إلى الملك فاروق إنذارا رسميا
قال فيه
" إن لم أعلم بأن الملك قد أصدر قراره بتولية
النحاس باشا للوزارة فسيكون عليه تحمل النتيجة "
وانتهى الأمر بأن حاصرت
الدبابات البريطانية القصر الملكى بعابدين وأجبروا الملك فاروق على تعيين النحاس
باشا رئيسا للوزراء لتزداد النقمة بين فاروق وبين الانجليز من جهة وبينه وبين
النحاس باشا من جهة
وهذه الحادثة الشهيرة المعروفة باسم " حادث 4 فبراير " تلخص مدى العداء الذى كان واستفحل بين الملك
فاروق والانجليز وتحدث عنه هيكل فى أكثر من موضع ..
بالإضافة إلى العداء الساحق
الذى جمع الملك فاروق بالمعتمد البريطانى بسبب إهانته له فضلا على عداء فاروق لأمين
باشا عثمان رجل الانجليز الأول فى مصر والذى اغتاله السادات فى فترة نضاله السياسي
فى الأربعينيات
ففساد حكم فاروق الأول لم يتضمن ولاءه أو تواطؤه مع الانجليز
نهائيا بل كان السبب الرئيسي فى ذلك وسبب قيام الثورة هو فترة الملك فاروق الثانية
فى الحكم والتى تسببت فيها أسرته وظروفه الشخصية بعد ارتداد الملكة الأم نازلى عن
الإسلام ومعها ابنتيها وسفرها إلى الولايات المتحدة لتموت على النصرانية بالإضافة
إلى أن زوجته الملكة فريدة خانته مع عشيق لها يعمل ضابطا فى الجيش البريطانى مما
زاد من نقمة فاروق على الإنجليز ..
وكانت تلك الظروف سببا فى نزوع فاروق إلى
حياة الملذات وانغماسه فيها وخسرانه التام لشعبيته بين الناس وهى الشعبية التى ظلت
حتى منتصف الأربعينيات ووصل الأمر فى حادث 4 فبراير إلى أن اللواء محمد نجيب والذى
كان برتبة الأميرلاى " العقيد " فى الحرس الملكى وأعلن
للملك فاروق أنهم سيموتون دونه دفاعا عنه وفيما عد هذا التاريخ بعشر سنوات كان محمد
نجيب نفسه هو القائد الذى قاد الانقلاب على فاروق وطرده من مصر إلى ايطاليا
أما عن موقف هيكل من جماعة الإخوان فلابد من إعادة لفت
النظر إلى نقطة هامة للغاية ..
وهى أن المواقف السياسية من أى شخص ـ
كما سبق القول ـ يندر أن تكون مطابقة لواقع الحق المطلق
بالنسبة للعاملين والمحتكين بالعمل السياسي كمفكرنا محمد حسنين هيكل وبالتالى فمن
غير المنطقي أن نقول أن آراء هذا أو ذاك جاءت مخالفة أو غير منطقية لأنها كلها فى
مجملها آراء تقريبية ونسبية نتيجة للخصومات المستعرة فى المجال السياسي
ولذا
أمر طبيعى أن نجد هيكل فى موقف المعادى أو غير المتفق مع جماعة الإخوان ومع
الساداتيين مثلا وأمر طبيعى أن نجده فى موقف المخالف مع حزب الوفد
وهكذا نصل ببساطة إلى أن الحقل السياسي ليس به ملائكة بما فيهم هيكل
نفسه ..
وجماعة الإخوان المسلمين ولو أن هيكل تحامل عليهم كما تحامل
عليهم كثيرون فى موضوع لجوئهم للإرهاب ومحاولة الخلط المتعمد ـ وهذا بوجهة نظر آخرين غير هيكل ـ بين جماعة الإخوان وبين
الجماعات الإرهابية التى تتخذ الإسلام ستارا فالفارق بينهما جلى واضح كما سنرى
واتهام الإخوان بالإرهاب أمر منافي لواقع الحال لأن النظام الخاص التابع للإخوان
كان موجها للخصوم المتمثلين فى الاحتلال الإنجليزي ومن هم على موقف التواطؤ معهم من
أهل الساحة السياسية المصرية لكنهم فى غير ذلك براء من أى أحداث عنف منذ محاولة
اغتيال عبد الناصر فى المنشية وهى الحادثة التى لا زالت غير محسومة إلى وقتنا هذا
..
أما الجماعات الإرهابية فتلك الجماعات التى نسبت نفسها للأصولية وكانت صاحبة
السبق فى فرض السلاح وتكفير المجتمع ومحاربته والسعى لتنفيذ أغراض خارجية بزعزعة
استقرار الحكم وكل هؤلاء لا علاقة لهم بالإخوان بل العلاقة بينهم بدأت من منطلق
العداء
وقد تأسست الجماعات الإرهابية كما أفاد هيكل فى خريف الغضب تفصيلا وكما
أفادت بقية المصادر فى قلب المعتقلات السياسية فى فترة الستينيات أى بعد تأسيس
جماعة الإخوان بأكثر من عشرين عاما ولم تمارس نشاطها مطلقا فى أيام عبد الناصر نظرا
للقبضة الحديدية التى لم تسمح لهم بذلك فى إطار حكم عسكرى مطلق ..
بل بدأت
حركتهم فى منتصف السبعينيات اثر الصفقة السياسية الشهيرة التى تمت بين عمر
التلمسانى والسادات لمنح التيار الدينى حرية الحركة لضرب الشيوعيين والناصريين لكن
هذا الاتفاق منح الجماعات الإسلامية فرصة الخروج من القمقم لأن التيار الدينى لم
تكن حركة الإخوان مسيطرة عليه كما توهم السادات وظهرت للوجود جماعة التكفير والهجرة
والجماعة وجماعة الجهاد التى ارتكبت حادثة اغتيال السادات نفسه بعد ذلك ..
أما
الإخوان فهم أهل الضحايا الذين شهدوا فى معتقلات عبد الناصر ما لم يشهده أسري
النازيين أنفسهم وتشردوا قمعا وقتلا حتى عادوا للنشاط السياسي اثر الإتفاق مع
السادات ..
وبالرغم من أنهم ظلموا كثيرا فى فترة عبد
الناصر وتجنى عليهم الكثير إلا أنه ليس معنى هذا أنهم ملائكة ..
بل إنهم
جماعة سياسية من الطراز الأول هدفها الأول والرئيسي السيطرة والحكم وفى سبيل ذلك
تتخذ جميع الأساليب السياسية بكل ما بها من أمور بالرغم من تقديمهم أنفسهم على أنهم
جماعة دعوية وهو ما يعد أمر قطعى فى افترائه كما سنرى من استعراض تاريخهم
مع أن
الاخوان المسلمين بدأت دعوتها وهى فى حل من السياسة وطرقها المتشابكة وأساليبها
القذرة .. إلا أنها ومع انتشارها فى القاهرة وفى شتى أنحاء الوطن العربي والإسلامي
بدأ الشيخ حسن البنا فى التوغل الكبير خلف الحكم خاصة مع إنشاء النظام الخاص وهو
الجناح العسكرى للإخوان المسلمين ..
وعلى الرغم من أن النظام الخاص خاض ضد
الاحتلال عمليات مشرفة .. إلا أنه تورط مع حكومة الملك كثيرا عندما تم اغتيال المستشار أحمد الخازندار وهو القاضى الذى قضي على بعض الإخوان
بالسجن عندما قدموا إلى المحاكمة بتهمة الشغب
ولم يكن اغتيل الخازندار إلا
بداية اشتعال الأمور ..
حيث أتى الملك فاروق بالنقراشي باشا رئيسا للوزراء بغرض كسر شوكة الإخوان
..
وبالفعل أخذ محمود فهمى النقراشي العديد من الإجراءات القمعية ضد الإخوان ..
فما كان من حسن البنا إلا إصدار الأمر بقتل النقراشي ..!!!
وفيما بعد وقبيل
التنفيذ .. تراجع البنا عن أوامره .. ربما لأنه أدرك أن اغتيال رئيس الوزراء ليس
بالأمر البسيط الذى يمضى دون عقاب " وهكذا تورط البنا فى لعبة
الموازنات السياسية لتصرفات الجماعة " .
وعلى الرغم من ذلك .. لم يستطع
البنا منع التنفيذ ووضح أن النظام الخاص قويت شوكته إلى الدرجة التى تمكنه من
التصرف خارج إرادة المرشد العام وعلى الرغم منها ..
وتم اغتيال النقراشي باشا
أما مجلس الوزراء فى نهاية الأربعينيات .. وقامت الدنيا ولم تقعد ..
وحاول
الشيخ البنا التملص من الأمر .. وأعلن تبرؤه من الجناه .. وقال " ليسوا إخوانا ..
وليسوا مسلمين "
إلا أن هذه المقولة لم تمنع الرد .. والرد
بقوة ..
وتنفيذا لأوامر الملك فاروق .. قام قائد حرس الوزارات بتكليف
بعض الجنود تم استقدامهم من صعيد مصر خصيصا لاغتيال البنا نفسه
وأما جمعية
الشبان المسلمين تم الإغتيال ..
وتولى المستشار حسن
الهضيبي منصب المرشد العام خلفا للبنا ..
وسعا عدد من الساسة لإعادة
العلاقة بين الإخوان وبين القصر .. وكان القصر فى البداية مؤيدا للإخوان كقوة
سياسية مؤثرة أمام حزب الوفد وشعبيته الساحقة ..
وتطبيقا للعبة التوازنات
السياسية .. رأي القصر فى الإخوان مخرجا من صداعهم الدائم المتمثل فى الوفد والنحاس
..
ونجحت المساعي بين الإخوان والقصر ..
وجاء حسن الهضيبي لزيارة الملك ..
وخرج من عنده ليقول للصحفيين قولته المشهورة " زيارة كريمة
لملك كريم " !!
بالرغم من أن الفترة التى تمت فيها الزيارة فى بداية
الخمسينيات شهدت تجاوز الملك فاروق أخلاقيا ومن خلال التعليق يتضح أن الجماعة فى
أسلوبها جنحت إلى الشأن السياسي وتوازناته ومصالحه ..
ثم قامت ثورة يوليو ..
وكان جمال عبد الناصر كما هو معروف عضوا بالجماعة وأقسم بقسم الإخوان على المصحف
والمسدس ثم تنصل من هذا بعد ذلك
ففى البداية تحالف كل طرف
مع الآخر على أنه سند له فى الوصول للحكم ..
فرأى الإخوان فى الثوار
طريقا للحكم .. والعكس صحيح ولذلك وفى الأيام الأولى لانقلاب يوليو أعادت حكومة
الثورة فتح التحقيق فى مقتل البنا وظهر للجميع واضحا أنها تريد إعادة الحق لنصابه
وتقديم القتلة للقضاء وبالفعل جرت التحقيقات واستمرت فترة طويلة لتتوقف نهائيا
وتنقلب الأمور ويتم الإفراج عمن تم القبض عليهم وتغلق القضية عقب حادث المنشية الذى
كان مفترق الطرق فى علاقة عبد الناصر بالإخوان
وعندما اتضحت نوايا الطرفين
لبعضهما البعض .. كان الصدام المروع .. وذاق الإخوان عقب أزمة مارس 1954 أقسي
أزماتهم على الإطلاق وتعرضوا للقتل والتنكيل والسحق فى السجون والمعتقلات ..
وظل الحال كما هو عليه حتى أمسك السادات بمقاليد الأمور فى الحكم بعد فراغه من
أزمة مراكز القوى عام 1971 وأزمة تحرير الأرض عام 1973 ..
وكانت الجماعة فى ذلك
الوقت تحت قيادة عمر التلمسانى .. وما زالت علاقتهم بالسادات باعتباره من كبار
الضباط الأحرار على ما هى من العداء التاريخى بين الفريقين ..
وتدخل فى ذلك
الوقت الإقتصادي المصري المعروف المهندس عثمان أحمد عثمان وسعى لوصل المقطوع بين
الطرفين بما له من نفوذ ساحق فى الحياة السياسية المصرية وعلاقة جيدة بعمر
التلمسانى ..
وجلس المرشد العام على مائدة المفاوضات مع
الرئيس السادات واتفق الطرفان على الآتى
* عودة الإخوان للحياة السياسية
بالشرعية الغائبة عنهم منذ الصدام الأخير بالإضافة إلى فتح المجال على آخره أما
التيارات الدينية فى الشارع والمؤسسات المصرية وبرعاية السلطة الرسمية على أعلى
مستوياتها..
* وبالمقابل يكون على الإخوان باعتبارها المسيطرة على التيار الدينى
العمل بالجهد الكافى لإنهاء سطوة التيارات المناوئة للسادات فى الحياة السياسية
وعلى رأسهم التيارات الناصرية والشيوعية والتقدميين
وعليه
فنحن أمام اتفاق دنيوى تام .. لا أثر مطلقا فيه لنية دينية خالصة
وانفتح
القمقم على حد تعبير الكاتب السياسي العملاق محمد حسنين هيكل ..فى ذلك الفصل الذى
عالج فيه تلك الفترة من خريف الغضب
ولم يدرك أيا من
الطرفين عواقب الأمر إلا بعد فوات الأوان
فلم يكن التيار الإخوانى زعيما
على مختلف التيارات الدينية ..
ولا كان صداع الناصريين والشيوعيين بالخطورة
التى تصورها السادات ..
خاصة مع انحسار الباب بشدة أما الناصرية والشيوعية وعدم
نفاذهما بالقدر الكافى إلى الشارع المصري وذلك لمخالفة مثل هذه الدعاوى للفطرة
الشعبية المصرية الأكثر انفتاحا على الجانب الدينى بحكم متغيرات التاريخ والثقافة
الحاكمة للشعب المصري
والأكثر خطورة هو ظهور التنظيمات الخاصة بالجماعات
الإسلامية من رحم الإخوان فى فترة المعتقلات وسعيها الكامل للاستقلال عن الإخوان
وهو ما حدث بالفعل حتى هاجموا الإخوان أنفسهم واتهموهم بخيانة عهد بناء الدولة
الإسلامية .. وعليه سعت الجماعات لأخذ المبادرة من يد الإخوان فى الشارع المصري ..
كل هذا .. والإخوان والسلطة الرسمية فى حالة غياب كامل عما يحدث .. واستفادت
الجماعات من الحرية والحماية الكاملة من الدولة فى إطار الصفقة المتبادلة وانطلقت
تجمع الأتباع ضد النظام نفسه الذى كان سببا فى خروجها وانفتاحها
هذه هى طبيعة
الإخوان المسلمين وبيان مدى صحة ما تعرض له هيكل من تحليل للحقائق الواردة عن
تاريخهم
وهذه قراءة سريعة لهذا الكتاب الذى أنشأ أزمة
سياسية بل أزمات فى الواقع وتسبب فى إعادة تشكيل الرأى العام أكثر من مرة
منقول