الإسباني فرناندو.. لغز من ألغاز دمشق
1969م
لكل مدينه أسرارُها.. ولكل مدينه تاريخُها وبطولاتها.. ولدمشق
سر وأسرار.. قصص وحكايات.. بطولات لا تنتهي، وحكايات تناقلها الأبناءُ عن الآباء
والأجداد، إنها أول مدينه مأهولة على وجه الأرض ورد ذكرها في الديانات الثلاث،
وأنها المدينة العريقة الطيبة التي تصنع الحضارة وتسطر التاريخ.. إنها دمشق؛ سر
الكون والتكوين، لم تزل باقية حتى الآن ترد الأذى عن العرب والعروبة، وتنشر
والإسلام، وتنبئ عن النصر القادم.
إنها دمشق التي تختزن التاريخ، وتحكي أحجارها
وسماؤها عن أسرارها.. ولنبدأ الحكاية..
الإسباني فرناندو..
لغز من ألغاز دمشق:
وصل إلى دمشق وهو في ريعان شبابه، ومكث فيها
يشتمّ عبق الحضارة من حاراتها، وتزوج من بناتها، وساعد على رسم حضارتها، فشيد فيها
روائع البيوت والقصور، وحين جاءه الأجلُ ضمته دمشق بين ذراعيها. إنه المهندس
المعماري فرناندو دي أراندا.
فرناندو دي
أراندا:
وصل إلى دمشق عام 1902م (أو عام 1905م) المهندس المعماري
الإسباني فرناندو دي أراندا قادماً من إسطنبول، ومكث في فندق فكتوريا, وقام بجولات
على أحياء وحارات وأزقة دمشق متأملا هذه المدينة وعمقها التاريخي، وفي أثناء وجوده
بدمشق سمع عن صفقة لبناء محطة الحجاز، التي شارك فيها مهندسون معماريون من جنسيات
عدة، فتقدم إليها وفاز بها، وساعد في إنشائها.. واستطاب العيش بدمشق، فسعى ليتقلد
منصبًا دبلوماسيا، فأصبح نائبا للقنصل الفخري الإسباني في دمشق بين عامي 1912م-
1936م، ثم اعتنق فرناندو الدين الإسلامي وغير اسمه إلى (محمد أراندا) وتزوج من
امرأة سورية من أصول تركية تدعى صبرية، وأقام إقامة دائمة بهذه المدينة العريقة..
ولد فرناندو دي أراندا في مدريد في 31 من كانون الأول عام 1878م، ولم تلبث
أمه أن توفيت بعد ولادته بوقت قصير. رافق والده الموسيقار، منذ كان طفلاً، إلى
باريس، ومن هناك إلى إسطنبول. وكان يميل إلى فن التصميم والهندسة منذ كان
شاباً.
حين وصل إلى دمشق، في أوائل القرن الماضي، مكث في فندق فكتوريا، وفيه
عرف زوجته الأولى زنوبيا سيريكاكيس، اليونانية الأصل، التي كانت تعيش بين دمشق
وبيروت، ثم انفصل عنها وكان قد أنجب منها ولدين. وحين طلبت عائلة حلمي -وهي عائله
دمشقية من أصول تركية- أن يبني لها بيتاً، عرف صبرية حلمي، قريبتهم وتزوجها بعد أن
اعتنق الدين الإسلامي، وكانت تصغره بعشرين عاماً، ورحل معها إلى حيفا حيث مكث مدة
من الزمن قبل أن يعود إلى دمشق ليكمل فيها بقية أعوامه التسعين.
لقد ساهمت
عبقرية هذا الفنان في بناء الفن المعماري وتخطيط المدينة الدمشقية الحديثة في النصف
الأول من القرن العشرين, والكثير من الأبنية التي صممها فرناندو معروفة بدمشق وما
زالت قائمه حتى الآن، ومن أهمها بناء العابد في ساحة المرجة...
لقد ساعد هذا
الفنان في تكوين هذه المدينة، وترك أثراً لا يمحى في مخططات عمرانية وأبنية رائعة.
استعادت في أعماله عناصر فن العمارة الإسلامية مثل ألواح القيشاني وتشكيلات
النوافذ، والزخارف الخشبية الداخلية. واستعارت الملامح المعمارية الكلاسيكية
المتبعة في العمارات، ولا سيما الطراز الألماني.
وفي شهر كانون الأول عام
1969م صلى أهل دمشق على فرناندو في جامع المرابط ثم دفن في المقبرة الإسلامية بباب
الصغير، بعد معاناة مع المرض، حيث استقبلته الغرفة رقم 7 في مشفى الطلياني مطروحاً
في فراش المرض الذي استفحل منتهزًا عمر التسعين، قبل أن تضم رفاته أقدم مقابر
دمشق...
بناء العابد:
من أضخم وأشهر الأبنية
الأثرية التي تشهد على عبقرية فرناندو دي أراندا في دمشق بناء العابد، المطل على
ساحة المرجة، والذي لا يزال قائما إلى الآن،لم تمتد له يد الإنسان بالهدم
والتخريب..؟ وهو من أوائل الأبنية الحديثة في دمشق (1906م)، ذو نمط ألماني، وتصميم
إسباني، وهذا البناء كان ولم يزل شاهدًا ومؤرخًا لحوادث دمشق اليومية..
ينسب بناء العابد لأحمد عزت باشا العابد (1851-1924م) والد رئيس أول
جمهورية سورية، وكان عزت باشا قد درس بدمشق, ثم تابع تحصيله العلمي في مدرسة
البطريركية في بيروت. عين كاتباً في مجلس إدارة الولاية, وما لبث أن تولى رئاسة
محكمة التجارة في دمشق. وفي السبعينيات من القرن التاسع عشر عمل رئيساً لتحرير مجلة
سورية الرسمية، وفي عام 1878م أصدر جريدة دمشق. ثم تولى تفتيش العدلية في دمشق,
ونقل منها إلى رئاسة المحاكم التجارية المختلطة في إستانبول. ومن ثم أصبح واحداً من
أقرب المقربين إلى السلطان عبد الحميد الثاني فعين عضواً في مجلس شورى الدولة وأصبح
ثاني أمناء السر للسلطان.
كان لأحمد عزت باشا الفضل في تحقيق عدد من
المشاريع في بلاد الشام. وأهم هذه المشاريع -بلا شك- مد الخط الحديدي الحجازي؛ إذ
أقنع السلطان بأهمية هذا المشروع وأنفق عليه من ماله الخاص. ومن المشاريع الأخرى
التي دعمها أحمد عزت باشا: مد خط الترام في دمشق وإنارة مدينة دمشق بالكهرباء. كما
أنه قام بشراء دار الحكومة القديمة (قصر والي دمشق كنج يوسف باشا في ساحة المرجة)
وهدمها وأقام مكانها بناء عرف باسم بناء العابد، على الطراز الأوربي ليكون فندقاً.
ثم تحوّل إلى ثكنة عسكرية خلال الحرب العالمية الأولى، وكان مقرًّا للمؤتمر السوري
الأول عام 1919م (أول برلمان لبلاد الشام)، ومقرا للجنرال غورو عند دخوله دمشق عام
1920م، وفي إحدى غرفه (حين شغلته مديرية شرطة العاصمة) مكث الجاسوس الإسرائيلي إيلي
كوهين ينتظر الإجراءات القانونية السابقة للإعدام وذلك عام 1965.
لقد قام
المهندس المعماري الإسباني فرناندو دي أراندا بتصميم بناء العابد، وهو يتألف من
أربعة طوابق، وأنشئ على مرحلتين. ويقوم على أساسات من أوتاد خشبية بطول 2.5م،
وجدرانه من الآجر المكسو بالحجر، وللمبنى مدخلان رئيسيان وخمسة مداخل ثانوية، ويحيط
المبنى بساحة سماوية نصل إليها عبر مدخلين، ومنها نصل إلى الطابق الأول بأدراج
رئيسة، وحولها مخازن. ويحوي الطابق الأول قاعة مركزية ذات قبة وهي محاطة بغرف. ولم
يستعمل البناء فندقاً بل جعله الأتراك في أثناء الحرب العالمية الأولى منزلاً
للعساكر، وما زال يسمى المنزل. ويعلو المبنى في قمته منور اثنى عشري الأضلاع. وغطي
السطح الجملوني بالقرميد.
هذا هو أحد ألغاز مدينه دمشق: الفنان الإسباني
فرناندو دي أراندا الذي قدم إليها عن عمر يناهز الثلاثين عامًا، ولم يغادرها، بل
ضمته مقابرها عن عمر يناهز التسعين عاما قضاها مساعدًا في تطوير وتجميل وجه دمشق
المعماري، ولم تزل ساحات وشوارع دمشق شاهدة على عظمة هذا القادم إلينا من بلاد
الأندلس...